كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واعلم: أن علماء الحديث قالوا: إن وقف هذا الحديث على ابن عباس أصح من رفعه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: وقد علمت مما مر قريبًا أن حديث ابن عباس المذكور رفعه عطاء بن السائب، وليث بن أبي سليم، والظاهر أن اجتماعهما معًا لا يقل عن درجة الحسن، ومما يؤيد ذلك أن ممن روى رفعه عن عطاء سفيان الثوري، وقد ذكروا أن رواية سفيان عنه صحيحة، لأنه روى عنه قبل اختلاطه، وعلى ذلك فهو دليل على اشتراط الطهارة، وستر العورة، لأن قوله: «الطواف صلاة» يدل على أنه يشترط فيه ما يشترط في الصلاة، إلا ما أخرجه دليل خاص كالمشي فيه، والانحراف عن القبلة، والكلام، ونحو ذلك.
فإن قيل: المحققون من علماء الحديث، يرون أن الصحيح أن حديث الطواف صلاة موقوف لا مرفوع، لأن من وقفوه أضبط، وأوثق ممن رفعه؟
فالجواب: أنا لو سلمنا أنه موقوف، فهو قول صحابي اشتهر ولم يعلم له مخالف من الصحابة، فيكون حجة، لاسيما وقد اعتضد بما ذكرنا قبله من الأحاديث الصحيحة، وبينا وجه دلالتها على اشتراط الطهارة للطواف.
وقال النووي في شرح المهذب في الكلام على حديث: «الطواف صلاة» ما نصه: وقد سبق أن الصحيح أنه موقوف على ابن عباس، وتحصل منه الدلالة أيضًا، لأنه قول صحابي اشتهر، ولم يخالفه أحد من الصحابة، فكان حجة كما سبق بيانه في مقدمة هذا الشرح، وقول الصحابي حجة أيضًا، عند أبي حنيفة انتهى منه.
فهذا الذي ذكرنا هو حاصل أدلة من قال: باشتراط الطهارة من الحدث الأكبر والأصغر للطواف، وأما اشتراط ستر العورة للطواف فقد استدلوا له بحديث متفق عليه دال على ذلك.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث قال يونس: قال ابن شهاب: حدثني حميد بن عبد الرحمن: أن أبا هريرة أخبرَهُ أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أمَّرهُ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع يوم النحر في رهطٍ يؤذِّن في الناس: ألا يَحُجُّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. وقال مسلم رحمه الله في صحيحه: حدثنا هارون بن سعيد الأيلي، حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة ح حدثني حرملة بن يحيى التُجَيبيُّ، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس: أن ابن شهاب أخبره عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة قال: بعثني أبو بكر الصديق رضي الله عنه في الحجة التي أَمَّرَه عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حَجَّةِ الوداع في رهط، يؤذن في الناس يوم النحر: «لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان» قال ابن شهاب: فكان حميد بن عبد الرحمن يقول: يوم النحر يوم الحج الأكبر، من أجل حديث أبي هريرة، فهذا الحديث المتفق عليه بلفظ «ولا يطوف بالبيت عريان» يدل فيه مسلك الإيماء والتنبيه على أن علة المنع من الطواف، كونه عريانًا، وهو دليل على اشتراط ستر العورة للطواف كما ترى.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: وجوب ستر العورة للطواف، يدل عليه كتاب الله في قوله تعالى في سورة الأعراف {يا بني آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] الآية. وإيضاح دلالة هذه الآية الكريمة على ستر العورة للطواف، يتوقف أولًا على مقدمتين.
الأولى منهما: أن تعلم أن المقرر في علوم الحديث، أن تفسير الصحابي إذا كان له تعلق بسبب النزول، أن له حكم الرفع كما أوضحناه في سورة البقرة.
قال العلوي الشنقيطي في طلعة الأنوار:
تفسير صاحب له تعلق ** بالسبب الرفع له محقق

وقال العراقي في ألفيته:
وعد ما فسره الصحابي ** رفعًا فمحمول على الأسباب

المقدمة الثانية: هي أن تعلم أن صورة سبب النزول قطعية الدخول عند جماهير الأصوليين، وهو الصواب إن شاء الله تعالى.
فإذا علمت ذلك: فاعلم أن سبب نزول قوله تعالى: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، فكانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة، فتقول: من يعيرني ثوبًا تجعله على فرجها، وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله ** وما بدا منه فلا أحله

فنزلت هذه الآية في هذا السبب {يا بني آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] الآية. ومن زينتهم التي أمروا بأخذها عند كل مسجد: لبسهم الثياب عند المسجد الحرام للطواف، لأنه هو صورة سبب النزول. فدخولها في حكم الآية قطعي عند الجمهور، كما ذكرناه الآن وأوضحناه سابقًا في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك. فالأمر في: خذوا شامل لستر العورة للطواف، وهو أمر حتم أوجبه الله مخاطبًا به بني آدم، وهو السبب الذي نزل فيه الأمر.
واعلم أيضًا: أنه ثبت عن ابن عباس ما يدل على أنه فسر {خُذُواْ زِينَتَكُمْ} [الأعراف: 31] بلبس الثياب للطواف استنادًا لسبب النزول.
قال مسلم رحمه الله في صحيحه: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر ح وحدثني أبو بكر بن نافع واللفظ له، حدثنا غُنْدَرٌ، حدثنا شُعْبَةٌ، عن سلمة بن كُهَيلٍ، عن مسلم البَطِينِ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان المرأة تطوف بالبيت، وهي عُرْيَانَة فتقول: من يعرني تِطْوَافًا تجعله على فرجها وتقول:
اليومَ يبدُو بعضُه أو كلُّهُ ** فما بدا منهُ فلا أحِلُّهُ

فنزلت هذه الآية: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] انتهى منه. ولأجل هذا كان ابن عباس يفسر الزينة المذكورة في هذه الآية: باللباس، ولتعلق هذا التفسير بسبب النزول، فله حكم الرفع كما بينا والبيت المذكور بعده.
جهم من الجهم عظيم ظله ** كم من لبيب عقله يضله

وناظر ينظر ما يمله

قال صاحب الدر المنثور: وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه، عن ابن عباس في قوله: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] قال: كان رجال يطوفون بالبيت عراة، فأمرهم الله بالزينة: اللباس، وهو ما يواري السوأة وما سوى ذلك من جيد البز والمتاع. اهـ منه. وجماهير علماء التفسير مطبقون على هذا التفسير المتعلق بـ سبب النزول، فتبين بما ذكرنا أن القران والسنة الصحيحة دلا معًا على ستر العورة للطواف، وقد قدمنا مرارًا كلام العلماء في اقتضاء النهي الفساد فأغنى ذلك عن إعادته هنا، وقد رأيت فيما كتبنا أدلة الجمهور على طهارة الحدث وستر العورة للطواف.
أما طهارة الخبث: فقد استدلوا لها بما تقدم من أن الطواف صلاة، وقد بينا وجه الدلالة منه على ذلك، سواء قلنا: إنه موقوف، أو مرفوع، وقد يقال: إنه لا مجال للرأي فيه، فله حكم الرفع، واستأنس بعضهم لطهارة الخبث للطواف بقوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ للطائفين} [الحج: 26]، لأنه يدل في الجملة على الأمر بالطهارة للطائفين، والعلم عند الله تعالى. وإذا علمت مما ذكرنا أن جماهير العلماء منهم الأئمة الثلاثة قالوا: باشتراط الطهارة وتسر العورة للطواف، وأن أبا حنيفة خالف الجمهور في هذه المسألة، فلم يشترط الطهارة، ولا ستر العورة للطواف.
فاعلم أن حجته في ذلك هي قاعدة مقررة في أصوله ترك من أجلها العمل بأحاديث صحيحة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتلك القاعدة التي ترك من أجلها العمل ببعض الأحاديث الصحيحة، متركبة من مقدمتين:
إحداهما: أن الزيادة على النص نسخ.
والثانية: أن الأخبار المتواترة لا تنسخ بأخبار الآحاد، فقال في المسألة التي نحن بصددها: قال الله تعالى في كتابه {وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق} [الحج: 29] وهو نص متواتر، فلو زدنا على الطواف اشتراط الطهارة، والستر، فإن هذه الزيادة نسخ، وأخبارها أبخار آحاد فلا تنسخ المتواتر الذي هو الآية، ولأجل هذا لم يقل بتغريب الزاني البكر، لأن الأحاديث الصحيحة الدالة عليه عنده أخبار آحاد، وزيادة التغريب على قوله: {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا} [النور: 2] الآية نسخ له، وهو متواتر، فلا ينسخ بأخبار الآحاد. ولأجل ذلك أيضًا لم يقل بثبوت المال بالشاهد واليمين، لأنه يرى ذلك زيادة على قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهداء} [البقرة: 282] الآية والزيادة نسخ، والمتواتر لا ينسخ بالآحاد. اهـ. والتحقيق في مسألة الزيادة على النص هو التفصيل. فإن كانت الزيادة أثبتت شيئًا نفاه المتواتر، أو نفت شيئًا أثبته، فهي نسخ له، وإن كان الزيادة زيد فيها شيء، لم يتعرض له النص المتواتر، فهي زيادة شيء مسكوت عنه لم ترفع حكمًا شرعيًّا، وإنما رفعت البراءة الأصلية التي هي الإباحة العقلية، ورفعها ليس بنسخ.
مثال الزيادة التي هي نسخ على التحقيق: زيادة تحريم الخمر بالقران، وتحريم الحمر الأهلية بالنسبة الصحيحة، على قوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إلى مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} [الأنعام: 145] فإن هذه الآية الكريمة لم تسكت عن إباحة الخمر والحمر الأهلية وقت نزولها، بل صرحت بإباحتهما بمقتضى الحصر الصريح بالنفي في {لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إلى} والإثبات في قوله: {إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً} الآية.
فتحريم شيء زائد على الأربعة المذكورة في الآية زيادة ناسخة، لأنها أثبتت تحريمًا دلت الآية على نفيه.
ومثال الزيادة التي لم يتعرض لها النص بنفي ولا إثبات، زيادة تغريب الزاني البكر عامًا بالسنة الصحيحة على آية الجلد، وزيادة الحكم بالشاهد واليمين. على آية: {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان} [البقرة: 282] الآية وزيادة الطهارة، والستر التي بينا أدلتها على آية: {وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق} [الحج: 29] وقد أشار صاحب مراقي السعود إلى مسألة الزيادة على النص بقوله:
وليس نسخًا كل ما أفادا ** فيما رسا بالنص الازديادا

وقد أوضحنا هذه المسألة في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إلى} [الأنعام: 145] الآية، وبينا أن التحقيق هو جواز نسخ المتواتر بالآحاد إذا علم تأخرها عنه، وبيناها أيضًا في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101] الآية. ولذلك اختصرناها هنا، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الخامس: اعلم أن الطواف في الحج المفرد والقران ثلاثة أنواع: طواف القدوم، وطواف الإفاضة: وهو طواف الزيارة، وطواف الوداع.
أما طواف الإفاضة فهو ركن من أركان الحج بإجماع العلماء، وأما طواف الوداع، وطواف القدوم: فقد اختلف فيهما العلماء، فذهب مالك وأصحابه، إلى أن طواف القدوم: واجب يجبر بدم، وأن طواف الوداع: سنة، ولا يلزم بتركه شيء، واستدل لوجوب القدوم بحديث عائشة وعروة المتفق عليه الذي قدمنا بسنده ومتنه عند الشيخين، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم أول ما يبدأ به الطواف، وكذلك الخلفاء الراشدون، والمهاجرون، والأنصار مع قوله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم» واستدل لعدم وجوب طواف الوداع، بترخيص النبي صلى الله عليه وسلم للحائض في تركه ولم يأمرها بدم ولا شيء، قالوا: فلو كان واجبًا لأمر يجبره، وأكثر أهل العلم: على أن طواف القدوم لا يلزم بتركه شيء. وقال ابن حجر في الفتح: وذهب الجمهور إلى أن من ترك طواف القدوم لا شيء عليه، وعن مالك وأبي ثور: عليه دم، ومن حججهم على أن طواف القدوم لا شيء في تركه أنه تحية، فلم يجب كتحية المسجد. وأكثر أهل العلم على أن طواف الوداع واجب، يجب بتركه الدم إلا أنه يرخص في تركه للحائض خاصة، إذا نفرت رفقتها قبل أن تطهر. قال النووي في شرح مسلم: الصحيح في مذهبنا وجوب طواف الوداع، وأنه إذا تركه لزمه دم، ثم قال: وبه قال أكثر العلماء، منهم الحسن البصري، والحكم، وحماد، والثوري، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وقال مالك، وداود، وابن المنذر: هو: سنة لا شيء في تركه. وعن مجاهد روايتان كالمذهبين انتهى منه. وقد نقل ابن حجر كلامه هذا، ثم تعقب عزوه سنيته، لابن المنذر فقال: والذي رأيته في الأوسط لابن المنذر: أنه واجب للأمر به إلا أنه لا يجب بتركه شيء.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر القولين في طواف الوداع دليلًا: أنه واجب.
قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا سعيد بن منصور، وزهير بن حرب، قالا: حدثنا سفيان، عن سليمان الأحول، عن طاوس، عن ابن عباس قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينفِرَنَّ أحد حتى يكونَ آخرُ عهدِهِ بالبيت» قال زهير: ينصرفون كل وجه، ولم يقل في. انتهى منه. فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح بصيغة النهي الصريح «لا ينفِرَنَّ أحد» إلخ. دليل على منع النفر بدون وداع، وهو واضح في وجوب طواف الوداع، ثم قال مسلم رحمه الله: حدثنا سعيد بن منصور، وأبو بكر بن أبي شيبة واللفظ لسعيد قالا: حدثنا سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: أُمِر الناسث أن يكون آخرُ عهدهم بالبيت، إلا أنه خُفِّفَ عن المرأة الحائض. اهـ منه. وقال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا مسدد، حدثنا سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أُمر الناس أن يكون آخر عَهدِهم بالبيت، إلا أنه خُفِّفَ عن الحائضِ انتهى. منه وقوله أمر بصيغة المبني للمفعول، ومعلوم في علوم الحديث، وأصول الفقه أن مثل ذلك له حكم الرفع. فهو حديث صحيح متفق عليه، يدل على أمر النبي صلى الله عليه وسلم بطواف الوداع، مع الترخيص لخصوص الحائض والله يقول: {وما آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] الآية. وهو صلى الله عليه وسلم يقول «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» وقد نهى في حديث مسلم السابق، عن النفر بدون طواف وداع، وأمر في الحديث المتفق عليه بالوداع. فدل ذلك الأمر وذلك النهي على وجوبه. أما لزوم الدم في تركه، فيتوقف على دليل صالح لإثبات ذلك، وسنذكر إن شاء الله ما تيسر من أدلة الدماء التي يوجبها الفقهاء، وحديث ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم لصفية أن تنفر وهي حائض من غير وداع معروف.
الفرع السادس: في أول وقت طواف الإفاضة وآخرة:
الظاهر أن أول وقته يوم النحر بعد الإفاضة من عرفة ومزدلفة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه طاف طواف الإفاضة، يوم النحر، بعد رمي جمرة العقبة، والنحر والحلق وقال «خذوا عني مناسككم» والشافعية، ومن وافقهم يقولون: إن أول وقته يدخل بنصف ليلة النحر، ولا أعلم لذلك دليلًا مقنعًا. وأما آخر وقت طواف الإفاضة، فلم يرد فيه نص، وجمهور العلماء على أنه لا آخر لوقته، بل يبقى وقته ما دام صاحب النسك حيًّا، ولَكِن العلماء اختلفوا في لزوم الدم بالتأخير.
قال النووي في شرح المهذب: قد ذكرنا أن مذهبنا أن طواف الإفاضة لا آخر لوقته، بل يبقى ما دام حيًّا، ولا يلزمه بتأخيره دم، قال ابن المنذر: ولا أعلم خلافًا بينهم في أن من أخره وفعله في أيم التشريق أجزأه ولا دم عليه، فإن أخره عن أيام التشريق. فقد قال جمهور العلماء كمذهبنا: لا دم. وممن قال به: عطاء، وعمرو بن دينار، وابن عيينة: وأبو ثور، وأبو يوسف ومحمد وابن المنذر، وهو رواية عن مالك. وقال أبو حنيفة: إن رجع إلى وطنه قبل الطواف: لزمه العود للطواف، فيطوف، وعليه دم للتأخير، وهو الرواية المشهورة عن مالك. دليلنا أن الأصل عدم الدم حتى يرد الشرع به. والله أعلم انتهى الغرض من كلام النووي.